فصل: من فوائد ابن عرفة في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{والَّذِين} عطف على {الذين} قبلها، ثم لك اعتباران:
أحدهما: أن يكون من باب عطف بعض الصفات على بعض كقوله: المتقارب:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وابْنِ الْهُمَامِ ** وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ

وقوله: السريع:
يَا وَيْحَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصْ ** صَابِحِ فَالغَانِمِ فَالآيِبِ

يعني: أنهم جامعون بين هذه الأوصاف إن قيل: إن المراد بها واحد.
والثاني: أن يكونوا غيرهم.
وعلى كلا القولين، فيحكم على موضعه بما حكم على موضع {الَّذِين} المتقدمة من الإعراب رفعًا ونصبًا وجرًّا قطعًا وإتباعًا كما مر تفصيله.
ويجوز أن يكون عطفًا على {المتقين} وأن يكون مبتدأ خبره {أولئك} وما بعدها إن قيل: إنهم غير {الذين} الأولى.
و{يؤمنون} صلة وعائد.
و{بما أنزل} متعلّق به و{ما} موصولة اسمية، و{أنزل} صلتها، وهو فعل مبني للمفعول، لعائد هو الضَّمير القائم مقام الفاعل، ويضعف أن يكون نكرة موصوفة وقد منع أبو البقاء ذلك قال: لأن النكرة الموصوفة لا عموم فيها، ولا يكمل الإيمان إلا بجميع ما أنزل.
و{إليك} متعلّق ب {أنزل} ومعنى إلى انتهاء الغاية، ولها معان أخر:
المُصَاحبة: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2].
والتبيين: {رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ} [يوسف: 33].
وموافقة اللام وفي ومن: {والأمر إِلَيْكِ} [النمل: 33] أي: لك.
وقال النابغة: الطويل:
فَلاَ تَتْرُكَنِّي بِالوَعِيدِ كَأَنِّنِي ** إِلى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ

وقال الآخر: الطويل:
أَيُسْقَى فَلاَ يُرْوَى إِلَيَّ ابْنُ أَحْمَرَا

أي: لا يروى منّي، وقد تزاد؛ قرئ: {تَهْوَى إليهم} [إبراهيم: 37] بفتح الواو.
والكاف في محل جر، وهي ضمير المُخَاطب، ويتّصل بها ما يدل على التثنية والجمع تذكيرًا وتأنيثًا كتاء المُخَاطب.
ويترك أبو جعفر، وابن كثير، وقالون، وأبو عمرو، ويعقوب كل مَدّة تقع بين كلمتين، والآخرون يمدونها.
والنزول الوصول والحلول من غير اشتراط عُلُوّ، قال تعالى: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} [الصافات: 177] أي حلّ ووصل.
وما الثانية وَصِلَتُهَا عطف ما الأولى قبلها، والكلام عليها وعلى صِلَتِهَا كالكلام على ما التي قبلها، فتأمله.
و{من قبلك} متعلّق ب {أنزل} و{من} لابتداء الغاية، وقبل ظرف زمان يقتضي التقدم، وهو نقيض بعد، وكلاهما متى نُكّر، أو أضيف أعرب، ومتى قطع عن الإضافة لفظًا، وأريدت معنى بني على الضم، فمن الإعراب قوله: الوافر:
فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلًا ** أَكَادُ أَغَصُّ بِالمَاءِ الْقَرَاحِ

وقال الآخر: الطويل:
وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ ** فَمَا شَرِبُوا بَعْدًا عَلَى لذَّةٍ خَمْرًا

ومن البناء قوله تعالى: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] وزعم بعضهم أن قبل في الأصل وصف نَابَ عن موصوفه لزومًا.
فإذا قلت: قمت قبل زيد فالتقدير: قمت زمانًا قبل زمان قيام زيد، فحذف هذا كله، وناب عنه قبل زيد، وفيه نظر لا يخفى على متأمله.
واعلم أن حكم فوق وتحت وعلى وأول حكم قبل وبعد فيما تقدّم.
وقرئ: {بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} مبنيًا للفاعل، وهو الله- تعالى- أو جبريل، وقرئ أيضًا: {بِمَا أُنْزِلّ لَيْكَ} بتشديد اللام، وتوجيهه أن يكون سكن آخر الفعل كما يكنه الأخر في قوله: الرمل:
إِنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ ** قدْ خُلِطَ بِجُلْجُلاَنِ

بتسكين خُلط ثم حذف همزة إليك، فالتقى مِثْلاَن، فأدغم لامه.
و{بالآخرة} متعلّق ب {يوقنون} و{يوقنون} خبر عن {هم} وقدّم المجرور؛ للاهتمام به كما قدم المنفق في قوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] لذلك، وهذه جملة اسمية عطفت على الجملة الفعلية قبلها فهي صلةٌ أيضًا، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر لخلاف: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}؛ لأن وصفهم بالإيقان بالآخرة أوقع من وصفهم بالإنفاق من الرزق، فناسب التأكيد بمجيء الجملة الاسمية، أو لئلا يتكرّر اللفظ لو قيل: ومما رزقناكم هم ينفقون.
والمراد من الآخرة: الدَّار الآخرة، وسميت الآخرة آخرة، لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا.
والآخرة تأنيث آخر مقابل لأول، وهي صفة في الأصل جرت مجرى الأسماء، والتقدير: الدار الآخرة، والنشأة الآخرة، وقد صرح بهذين الموصوفين، قال تعالى: {وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ} [الأنعام: 32] وقال: {ثُمَّ الله يُنشِئ النشأة الآخرة} [العنكبوت: 20].
و{يوقنون} من أيقن بمعنى: استيقن، وقد تقدّم أن أفعل يأتي بمعنى: استفعل أي: يستيقنون أنها كائنة، من الإيقان وهو العلم.
وقيل: اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكًّا فيه، فلذلك لا تقول: تيقّنت وجود نفسي، وتيقنت أن السماء فوقي، ويقال ذلك في العلم الحادث، سواء أكان ذلك العلم ضروريًا أو استدلاليًا.
وقيل: الإيقان واليقين علم من استدلال، ولذلك لا يسمى الله موقنًا ولا علمه يقينًا، إذ ليس علمه عن استدلال.
وقرئ: {يُؤْقِنُون} بهمز الواو، وكأنهم جعلوا ضمّة الياء على الواو لأن حركة الحرف بين بين، والواو المضمومة يطرد قبلها همزة بشروط:
منها ألاّ تكون الحركة عارضة، وألاّ يمكن تخيفها، وألاّ يكون مدغمًا فيها، وألاّ تكون زائدة؛ على خلاف في هذا الأخير، وسيأتي أمثلة ذلك في سورة آل عمران عند قوله: {وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} [آل عمران: 153]، فأجروا الواو السَّاكنة المضموم ما قبلها مُجْرَى المضمومة نفسها؛ لما ذكرت لك، ومثل هذه القراءة قراءةُ قُنْبُلٍ {بالسُّؤْقِ} [ص: 33] و{على سُؤْقِهِ} [الفتح: 29] وقال الشاعر: الوافر:
أَحَبُّ المُؤْقِدَيْنِ إِلَيَّ مُؤْسَى ** وَجَعْدَةُ إِذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ

بهمز المؤقدين.
وجاء بالأفعال الخمسة بصيغة المضارع دلالة على التجدُّد والحدوث، وأنهم كل وقت يفعلون ذلك.
وجاء بأنزل ماضيًا، وإن كان إيمانهم قبل تمام نزوله تغليبًا للحاضر المنزول على ما لم ينزل؛ لأنه لابد من وقوع، فكأنه نزل من باب قوله: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1]، بل أقرب منه؛ لنزول بعضه. اهـ. بتصرف يسير.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}.
إيمانهم بالغيب اقتضى إيمانهم بالقرآن، وبما أنزل الله من الكتب قبل القرآن، ولكنه أعاد ذكر الإيمان هاهنا على جهة التخصيص والتأكيد، وتصديق الواسطة صلى الله عليه وسلم في بعض ما أخبر يوجب تصديقه في جميع ما أخبر، فإن دلالة صِدْقه تشهد على الإطلاق دون التخصيص، وإنما أيقنوا بالآخرة لأنهم شهدوا على الغيب فإن حارثة لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أصبحت؟» قال: أصبحت مؤمنًا بالله حقًا، وكأني بأهل الجنة يتزاورون وكأني بأهل النار يتعاوون وكأني بعرش ربي بارزًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصبْتَ فالْزَمْ».
وهذا عامر بن عبد القيس يقول: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا.
وحقيقة اليقين التخلص عن تردد التخمين، والتقصي عن مجوزات الظنون. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ}.
قال الزمخشري: إن قلت إنْ عَنَى بما أنزل إليك كلّ القرآن فليس بماض وإن أراد بما سبق إنزاله منه فهو إيمان ببعض المنزل والإيمان بالجميع واجب.
ورده ابن عرفة: بأنه إنما يجب مع العلم بإنزال ما وسينزل منه.
أما مع عدم العلم فلاَ يجب الإيمان إلا بما أنزل منه فقط.
وأمّا ما لمْ يعلم في الحال بأنه سينزل فلسنا بمكلفين بالإيمان به.
وأجاب الزمخشري: أن المراد بالإيمان بالجميع، وعبر بالماضي تغليا لما أنزل على ما سينزل.
قال ابن عرفة: ويلزم على كلام الزمخشري استعمال اللّفظة الواحدة في حقيقتها ومجازها.
وفيه خلاف عند الأصوليين.
قال ابن عرفة: أو يجاب بأن المراد إنزاله من اللّوح المحفوظ إلى سماء الدنيا وقد كان حينئذ ماضيا.
قال ابن عرفة: وعادة الشيوخ يوردون هنا سؤالا لم أره لأحد وهو هلا قيل: والذينَ يُؤْمِنونَ بما أنزل من قبلك وما أنزل إليك فهو الأَرْتَبُ ليكونَ الأَسْبَقَ في الوجود متقدما في اللّفظ؟
قال: وعادتهم يجيبون عنه بأن الإيمان بما أنزل على النّبي صلى الله عليه وسلم سبب في الإيمان بما أنزل من قبله، لأن المكلف إن آمن به يسمع القرآن المعجز والسنة المعجزة ويرى سائر المعجزات، فيطلع من ذلك على أخبار الكتب السّابقة وصحتها، فيؤمن بها إيمانا حقيقيا أقوى من إيمانه بها مستندا لأخبار اليهود وأخبار النصارى عنها:
قيل له: أو يجاب عنه: بأنه قدم لكونه أشرف وأحد أسباب تقدم الشرف.
قال: وهلا أخر ويكون مترقيا؟
قوله تعالى: {وبالآخرة}.
المنعوت إما النشأة الآخرة أو الدار الآخرة أو الملة الآخرة، والموصوف لا يحذف إلا إذا كانت الصفة خاصة، وعموما هذا في نوع الموصوف فلا يمنع الخصوص.
قوله تعالى: {هُمْ يُوقِنُونَ}.
إن قلنا: إن العلوم متفاوتة، فنقول: اليقين أعلاها.
وإن قلنا: إنها لا تتفاوت في أنفسها، فنقول: اليقين منها هو العلم الذي لا يقبل التشكيك وغيره هو العلم القابل للتشكيك وهو قسمان: بديهي، ونظري.
فالتشكيك في الأمور الضرورية البديهية غير قادح بوجه، والتشكيك في النظريات ممكن شائع.
وبهذا يفهم اختلاف العلماء الذين هم مجتهدون فيصوب أحدهم قولا ويخطئه الآخر، وقد أَلِفَ الناس التشكيك على كتاب إقليدس في الهندسة. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

قال رحمه الله:
وَبَعْدَ أَنَّ بَيَّنَ حَالَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ الَّتِي يَكُونُ الْكِتَابُ هُدًى لَهَا يُخْرِجُهَا مِنْ ظُلُمَاتِ الشَّكِّ إِلَى نُورِ الْيَقِينِ، وَيَنْكُبُ بِهَا عَنْ مَهَابِّ رِيَاحِ الْفِكْرِ إِلَى مُسْتَقَرِّ السِّكِّينَةِ وَمُسْتَكَنِّ الطُّمَأْنِينَةِ، بِمَا تَتَعَرَّفُهُ النَّفْسُ مِنْ جَانِبِ الْقُدُسِ عَطَفَ عَلَيْهَا بَيَانَ حَالِ الْفِرْقَةِ الَّتِي اهْتَدَتْ بِهِ فِعْلًا، وَصَارَ إِمَامًا لَهَا تَتْبَعُهُ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِهَا، دُونَ أَنْ تَغْمُضَ عَيْنُهَا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ أَضَاءَ لَهَا مَا أَضَاءَ مِنْهُ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.
أَقُولُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا مَنْ يُؤْمِنُ بِالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ فِيمَا قَبْلَهَا مَنْ يُؤْمَنُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَآخَرُونَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَتَيْنِ قِسْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَإِنَّمَا تَعَدَّدَ مَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، فَالْعَطْفُ فِيهِمَا عَطْفُ الصِّفَاتِ لَا عَطْفُ الْمَوْصُوفِينَ، وَثَمَّ قَوْلٌ ثَالِثٌ شَاذٌّ، وَهُوَ: أَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ شَيْخِنَا وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ. وَالْمُرَادُ عَلَى كُلِّ رَأْيٍ مِنْ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الْإِيمَانُ التَّفْصِيلِيُّ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} فَيَكْفِي فِيهِ الْإِيمَانُ الْإِجْمَالِيُّ، وَقَالَ شَيْخُنَا مَا مِثَالُهُ:
هَذِهِ هِيَ الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَأُعِيدَ لَفْظُ الَّذِينَ لِتَحْقِيقِ التَّمَايُزِ بَيْنَ الطَّبَقَتَيْنِ، وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ أَرْقَى مِنَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ أَوْصَافَهَا تَقْتَضِي الْأَوْصَافَ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى تِلْكَ وَزِيَادَةً، فَالْقُرْآنُ يَكُونُ هُدًى لَهَا بِالْأَوْلَى، وَمَعْنَى كَوْنِهِ هُدًى لَهَا: أَنَّهُ يَكُونُ إِمَامَهَا فِي أَعْمَالِهَا وَأَحْوَالِهَا، لَا تَحِيدُ عَنِ النَّهْجِ الَّذِي نَهَجَهُ لَهَا، كَمَا ذَكَرْنَا.
مَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ بِمَا ذُكِرَ مُهْتَدٍ بِالْقُرْآنِ، فَالْمُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ عَلَى ضُرُوبٍ شَتَّى، وَنَرَى بَيْنَنَا كَثِيرِينَ مِمَّنْ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْقُرْآنِ قَالَ: هُوَ كَلَامُ اللهِ وَلَا شَكَّ، وَلَكِنْ إِذَا عُرِضَتْ أَعْمَالُهُ وَأَحْوَالُهُ عَلَى الْقُرْآنِ نَرَاهَا مُبَايِنَةً لَهُ كُلَّ الْمُبَايَنَةِ، الْقُرْآنُ يَنْهَى عَنِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْكَذِبِ، وَهُوَ يَغْتَابُ وَيَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ وَلَا يَتَأَثَّمُ مِنَ الْكَذِبِ، الْقُرْآنُ يَأْمُرُ بِالْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَهُوَ كَمَا وَصَفَ الْقُرْآنُ الْمُكَذِّبِينَ بِقَوْلِهِ تعالى فِيهِمْ: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [51: 11] لَا يُفَكِّرُ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِ، وَلَا فِي مُسْتَقْبَلِهِ وَلَا مُسْتَقْبَلِ أُمَّتِهِ، وَلَا يَتَدَبَّرُ الْآيَاتِ وَالنُّذُرَ، وَلَا الْحَوَادِثَ وَالْعِبَرَ.
إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الَّذِي يُزَيِّنُ أَعْمَالَهُ وَأَخْلَاقَهُ بِاسْتِكْمَالِ مَا هُدِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ دَائِمًا، وَيَجْعَلُهُ مِعْيَارًا يَعْرِضُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَعْمَالَ وَالْأَخْلَاقَ، لِيَتَبَيَّنَ: هَلْ هُوَ مُهْتَدٍ بِهِ أَمْ لَا؟ مِثَالُ ذَلِكَ: الصَّلَاةُ. يَصِفُهَا الْقُرْآنُ بِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَقَالَ فِي الْمُصَلِّينَ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [70: 19- 22].
فَبَيِّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَقْتَلِعُ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةَ الرَّاسِخَةَ الَّتِي تَكَادُ تَكُونُ فِطْرِيَّةً، فَمَنْ لَمْ تَنْهَهُ صِلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَمْ تَقْتَلِعْ مِنْ نَفْسِهِ جُذُورَ الْجُبْنِ وَالْهَلَعِ، وَتَصْطَلِمُ جَرَاثِيمَ الْبُخْلِ وَالطَّمَعِ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مُصَلِّيًا فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ، وَلَا مُسْتَحِقًّا لِمَا وَعَدَ عِبَادَهُ الرَّحْمَنُ.
أَمَّا لَفْظُ الْإِنْزَالِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا وَرَدَ مِنْ جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ الرَّفِيعِ الْأَعْلَى، وَأَوْحَى إِلَى الْعِبَادِ مِنَ الْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ الْأَسْمَى، وَسُمِّيَ إِنْزَالًا لِمَا فِي جَانِبِ الْأُلُوهِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْعُلُوِّ، عُلُوِّ الرَّبِّ عَلَى الْمَرْبُوبِ، وَالْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ، الَّذِينَ لَا يَخْرُجُونَ بِالتَّكْرِيمِ وَالِاصْطِفَاءِ عَنْ كَوْنِهِمْ عَبِيدًا خَاضِعِينَ، وَقَدْ سَمَّى الْقُرْآنُ غَيْرَ الْوَحْيِ مِنْ إِسْدَاءِ النِّعَمِ الْإِلَهِيَّةِ إِنْزَالًا فَقَالَ: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [: 57: 25] فَنَكْتَفِ بِهَذَا مِنْ مَعْنَى الْإِنْزَالِ، وَهُوَ مَا يَفْهَمُهُ كُلُّ عَرَبِيٍّ، مِنْ حَضَرٍ وَبَدْوٍ.
وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّنِي كُنْتُ اكْتَفَيْتُ بِهَذَا الْقَدْرِ فِي تَفْسِيرِ الْإِنْزَالِ تَحَامِيًا لِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ خِلَافٍ وَجِدَالٍ، وَلَكِنَّنِي عُدْتُ فِي التَّفْسِيرِ إِلَى فَصْلِ الْمَقَالِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ، فَأَزِيدُ عَلَيْهِ أَنَّ إِنْزَالَ الْحَدِيدِ فِيهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى لِلسَّلَفِ وَالْخَلْفِ، كَقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [39- 6] أَوْضَحُهَا أَنَّ الْمُرَادَ إِنْزَالُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَدِيدَ نُزِّلَ مِنَ الْجَنَّةِ مَعَ آدَمَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْزَالَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: هُوَ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ إِلَى مَا دُونَهُ، وَيُطْلَقُ الْعُلُوُّ مَجَازًا فِي الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَهُوَ عُلُوُّ مَكَانٍ وَعُلُوُّ مَكَانَةٍ، وَمِنَ الثَّانِي: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لِعَالٍ فِي الْأَرْضِ} [10: 83].
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ عُلُوَّ الْمَكَانِ الْحِسِّيِّ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوْقِعِ النَّاسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَالْجِهَاتُ كُلُّهَا أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ بَائِنٌ مِنْهُمْ، بِلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَلَا مُتَّصِلٌ بِشَيْءٍ وَلَا حَالٌ فِيهِ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ، وَهَذَا وَجْهُ تَسْمِيَةِ مَا يَأْتِي مِنْ لَدُنْهُ إِنْزَالًا، فَمَلَكُ الْوَحْيِ كَانَ يَتَلَقَّى الْوَحْيَ مِنْهُ- عَزَّ وَجَلَّ- وَيَنْزِلُ بِهِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فَيَتَلَقَّاهُ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا نَعْلَمُ صِفَةَ تَلَقِّي الْمَلَكِ عَنِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي نُؤْمِنُ بِهِ مُجْمَلًا كَمَا بُلِّغْنَاهُ، وَلَا صِفَةَ تَلَقِّي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جِبْرِيلَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ النُّبُوَّةِ وَلَسْنَا بِأَنْبِيَاءَ، وَهُوَ مِنَ الصِّلَةِ بَيْنَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ وَصَفَ لَنَا تَكْلِيمَهُ لِلْبَشَرِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [42: 51] الآية- وَقَوْلِهِ: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [26: 193- 195] وَوَصَفَهُ لَنَا رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فِي جَوَابِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْهُ- وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ هَاشِمٍ الْمَخْزُومِيُّ- فَقَالَ: «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-. ثُمَّ قال تعالى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أَمَّا لَفْظُ الْآخِرَةِ فَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ أَوِ الدَّارُ الْآخِرَةُ حَيْثُ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَيَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِالْجَنَّةِ وَبِالنَّارِ.
وَأَمَّا الْيَقِينُ: فَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْمُطَابِقُ الْوَاقِعِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ وَلَا الزَّوَالَ، فَهُوَ اعْتِقَادَانِ: اعْتِقَادُ أَنَّ الشَّيْءَ كَذَا، وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَذَا.
وَأَقُولُ الْآنَ: هَذَا مَا قَالَهُ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ، وَهُوَ عُرْفُ عُلَمَاءِ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَدْ جَارَيْنَاهُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ، وَأَمَّا الْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ فِي غَيْرِ الْحِسِّيَّاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَالْجَزْمُ بِخَبَرِ الصَّادِقِ وَاعْتِقَادِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْأَدِلَّةِ وَالْأَمَارَاتِ يُسَمَّى يَقِينًا إِذَا كَانَ ثَابِتًا لَا شَكَّ فِيهِ.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْيَقِينَ: الْعِلْمُ وَإِزَاحَةُ الشَّكِّ وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ، وَهُوَ نَقِيضُ الشَّكِّ. وَالْعِلْمُ: نَقِيضُ الْجَهْلِ. اهـ.
فَالْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْيَقِينُ اللُّغَوِيُّ فَقَطْ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا تَرَدُّدَ، وَلَا مُلَاحَظَةَ طَرَفٍ رَاجِحٍ عَلَى طَرَفٍ مَرْجُوحٍ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الظَّنُّ. والْيَقِينُ الْمَنْطِقِيُّ أَكْمَلُ، وَهُوَ مَا بَنَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا مَا يَأْتِي مَبْسُوطًا لَا مُلَخَّصًا، قَالَ مَا مَعْنَاهُ:
وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، وَلَمْ يَصِفْ بِهَذَا الْوَصْفِ الطَّائِفَةَ الْأَوْلَى لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَتَتَوَجَّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَا وَتُنْفِقُ مِمَّا رَزَقَهَا اللهُ، فَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنَّهَا فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قَبْلَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ لَهَا: أَنْ خَرَجَ بِهَا مِنْ غَمَرَاتِ تِلْكَ الْحَيْرَةِ.
وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا دُونَ الْيَقِينِ فِي الْإِيمَانِ وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي اعْتِقَادِ قَوْمٍ: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [53: 28] وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الظَّانُّ مُوقِنًا وَعَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فِي اعْتِقَادِهِ، فَمَا حَالُ مَنْ هُوَ دُونَهُ مِنَ الشَّاكِينَ وَالْمُرْتَابِينَ؟ وَيُعْرَفُ الْيَقِينُ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بِآثَارِهِ فِي الْأَعْمَالِ.
إِنَّنَا نَرَى الرَّجُلَ يَأْتِي إِلَى الْمَحْكَمَةِ بِدَعْوَى زُورٍ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ بِهَا حَقَّ أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ أَوْ يُجَامِلَ آخَرَ بِشَهَادَةِ زُورٍ، أَوْ يَنْتَقِمَ بِهَا مِنْ ثَالِثٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُزَوِّرٌ وَمُبْطِلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اتَّقِ اللهَ إِنَّ أَمَامَكَ يَوْمًا يَعَضُّ الظَّالِمُ فِيهِ عَلَى يَدَيْهِ فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِاللهِ، أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ أَمَامِي يَوْمًا، وَأَنَّ أَمَامِي شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ- يَعْنِي الْقَبْرَ- وَالدُّنْيَا لَا تُغْنِي عَنِ الْآخِرَةِ، وَيَحْلِفُ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ بِاسْمِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي دَعْوَاهُ أَوْ فِي شَهَادَتِهِ، ثُمَّ يُظْهِرُ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ مُزَوِّرٌ، وَيُضْطَرُّ إِلَى الِاعْتِرَافِ وَالْإِقْرَارِ بِذَلِكَ، فَكَأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عِنْدَهُ خَيَالٌ يَلُوحُ فِي ذِهْنِهِ عِنْدَمَا يُرِيدُ الْخِلَابَةَ وَالْخِدَاعَ لِأَجْلِ أَكْلِ الْحُقُوقِ أَوْ إِرْضَاءِ الْهَوَى، وَلَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ كَأَثَرِ الِاعْتِقَادِ بِبَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمَيِّتِينَ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ.
فَمِثْلُ هَذَا الْإِيمَانِ- وَإِنْ تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ تِلْكَ- لَيْسَ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنَ الْإِيقَانِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ فِي آثَارِ الْيَقِينِ: الْيَقِينُ إِيمَانُكَ بِالشَّيْءِ، وَالْإِحْسَاسُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ وِجْدَانِكَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ بِكَ الْعِلْمُ بِهِ أَنْ صَارَ مَالِكًا لِنَفْسِكَ مُصَرِّفًا لَهَا فِي أَعْمَالِهَا، وَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ مُحَقَّقًا لِلْإِيمَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى تَكُونَ قَدْ أَصَبْتَهُ مِنْ إِحْدَى طَرِيقَتَيْنِ:
الأولى النَّظَرُ الصَّحِيحُ فِيمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى النَّظَرِ، كَالْإِيقَانِ بِوُجُودِ اللهِ وَرِسَالَةِ الرُّسُلِ، وَذَلِكَ بِتَلْخِيصِ الْمُقَدَّمَاتِ، وَالْوُصُولِ بِهَا إِلَى حَدِّ الضَّرُورِيَّاتِ، فَأَنْتَ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى مَا وَصَلْتَ إِلَيْهِ كَأَنَّكَ رَاءٍ مَا اسْتَقَرَّ رَأْيُكَ عَلَيْهِ.
وَالطَّرِيقُ الْأُخْرَى خَبَرُ الصَّادِقِ الْمَعْصُومِ بَعْدَ أَنْ قَامَتِ الدَّلَائِلُ عَلَى صِدْقِهِ وَعِصْمَتِهِ عِنْدَكَ، وَلَا يَكُونُ الْخَبَرُ طَرِيقًا لِلْيَقِينِ حَتَّى تَكُونَ سَمِعْتَ الْخَبَرَ مِنْ نَفْسِ الْمَعْصُومِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَوْ جَاءَكَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ لَا تَحْتَمِلُ الرِّيَبَ، وَهِيَ طَرِيقُ التَّوَاتُرِ دُونَ سِوَاهَا، فَلَا يَنْبُوعَ لِلْيَقِينِ بَعْدَ طُولِ الزَّمَنِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا سَبِيلُ الْمُتَوَاتِرَاتِ الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ فِي وُقُوعِهَا، فَالْإِيقَانُ بِالْمُغَيَّبَاتِ كَالْآخِرَةِ وَأَحْوَالِهَا وَالْمَلَأِ الْأَعْلَى وَأَوْصَافِهِ، وَصِفَاتِ اللهِ الَّتِي لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا النَّظَرُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَنَا مِنَ اللهِ لَا رَيْبَ فِيهِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَقِفَ عِنْدَمَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا قِيَاسٍ.
وَأَكَّدَ الْإِيقَانَ بِالْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: {هُمْ} اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ الْإِيقَانَ بِالْآخِرَةِ خَاصَّةٌ مِنْ خَوَاصِّ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقُرْآنِ وَبِمَا أُنْزِلَ قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ سِوَاهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لابد أَنْ يَكُونَ الْمُوقِنُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ قَطْعِيًّا، فَهَذِهِ الْإِضَافَاتُ الَّتِي أَضَافُوهَا عَلَى أَخْبَارِ الْغَيْبِ وَخَلَقُوا لَهَا الْأَحَادِيثَ، بَلْ أَضَافُوا إِلَيْهَا أَيْضًا أَقْوَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَشْيَاءَ أُخْرَى نَسَبُوهَا إِلَى السَّلَفِ، وَبَعْضَ غَرَائِبَ جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ الْمُنْتَسِبِينَ لِلتَّصَوُّفِ لَا تَدْخُلُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْيَقِينُ، بَلِ الْجَهْلُ بِالْكَثِيرِ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنَّمَا الْوَصْفُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُوَ الْيَقِينُ، وَلَا يَكُونُ الْيَقِينُ إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ الْقَطْعُ، وَأَمَّا الظَّنُّ: فَهُوَ وَصْفُ مَنْ عَابَهُمُ الْقُرْآنُ وَأَزْرَى بِهِمْ، فَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِأَحْوَالِهِمْ. اهـ.